صديقي القارئ، يُحكى أنّ رَجُلاً كان يحمل حقيبة في يده، مُنتظِراً دوره داخل صفّ طويل أمام نافذة أحد المصارف. وفي خارج المصرف يقف سارق
ينتظر بفارغ الصّبر، خروج أيّ شخص من المصرف، علّه يسرق له حقيبته.
بعد قليل لاحَظَ سارقنا المُنتظِر خارج المصرف أنَّ الرَّجُل القابع في دوره، يترك حقيبته ويغادر مكانه.
انتظر السّارق لحظات فَدَقائق. ومن ثمّ لحظات ودقائق أُخرى، لكنّ الرَّجُل صاحب الحقيبة، كان قد تأخّر في العودة إلى الرَّتل الطّويل.
لذلك، دخل السّارق بأدَب إلى المصرف. وقف مكان الرَّجُل إلى جانب الحقيبة، ثم ما لَبث أن أمسكها بيَده وخرج من رَتل المُنتظرين أمام الشّبّاك، وانسلّ هارباً خارج المصرف، فَرِحاً بالحقيبة التي فاز بها.
وضعها في سيّارته، شغّل محرّكها وانطلق مُسرِعاً، وفي الطّريق انفجرت سيّارته.
في المساء، أعلنت وكالات الأنباء الخبر التّالي: انفجار سيّارة بسبب حقيبة ملغومة في ظروف غامضة، الضّحيّة واحد من أرباب السّوابق.
الطّمع قاد هذا الرَّجُل إلى السّرقة، وإلى مصير أسود.
حُبّ الامتلاك لحقيبة كانت ملغومة، جعل نهاية صاحبها محتومة.
ما مصدر الطّمَع والرّغبة القويّة في الامتلاك؟
إذا تأمّلنا قليلاً في مصدر هذه النّزعة، سنجد بأنَّ مصدرها هو تمركُز الإنسان حول نَفْسه. فنَفْس الإنسان العادي ورغباته واحتياجاته هي مركز حياته، وجميع الأشياء تدور حول هذا المركز وضمن هذا الفَلَك.
ولكن! ما الذي حدث للإنسان لمّا تمركز حول ذاته؟
أوَ ليست هذه مشيئة الله للإنسان أن يأكل ويشرب، يتزوّج ويُنجِب. ويعيش حياةً آمنة؟
نعم هي مشيئة الله في أن يعيش الإنسان حياة آمنة مُرفَّهة وأفضل. لكنّ السّقوط في الخطيئة الأصليّة جَلَبَ اللعنة عليه بَدَلَ البَرَكة، وبالتّالي اختلفت دوافع الإنسان واتِّجاهاته من نحو نَفْسه ومن نحو الله والإنسان الآخَر بعد هذا السُّقوط المُريع.
قبل السُّقوط وبعده:
في سِفْر التكوين 2: 23
. نجد آدم قبل السّقوط يَرعى حوّاء التي كانت مركز اهتمامه، فيدعوها عظم من عظامه ولحم من لحمه، بمعنى آخَر هي جزء منه.
لكن في تكوين 3: 12
. وبعد السّقوط، نجد آدم يصبح هو مركز اهتمام نَفْسه وتتحوّل حوّاء إلى تلك المرأة التي أعطاها الله له، بمعنى الكائن المنفصل عنه الذي هو مُلك له.
هذا التّحوُّل في طبيعة الإنسان الأوّل انتقل بشكل طبيعيّ إلى نسله (نسل آدم وحوّاء)، جيلاً بعد جيل وحتّى يومنا هذا. فنحن اليوم نجد أطفالنا يولدون وهم يحملون في ذواتهم نزعة حُبّ الامتلاك. أنت لا تعلِّم طفلك كيف يكون مُتمَحوِراً حول ذاته، بل على العكس تحتاج إلى تعليمه كيف يتوقّف عن ذلك، وقد يحتاج عمره كلّه حتى يتعلّم هذا الدّرس.
كلّ إنسان منّا نحن البشر، مهما كانت أخلاقيّاته عالية ومهما كانت محبّته لله شديدة، ستجده يُصارِع مرّات ومرّات حين يُقابَل باختيارات تتطلّب منه التّخلّي عن حقوقه، أو تقديم منفعةْ الآخَرين على منفعته الشّخصيّة. من الصّعب أن تجد شخصاً لا يكون طمّاعاً.
أحد دوافع الطّمع وحُبّ الامتلاك:
أحد الدّوافع الرّئيسيّة لرغبة الإنسان الجامِحة في الجَمع والتّكديس، هي غريزة حُبّ البقاء. ومع أنّ جَمع المُمتَلكات والأموال يمكن أن يمنح الإنسان شعوراً بالأمان لكنّه سيكون زائفاً. وإن دخلنا عمقاً أكبر داخل النّفْس البشريّة، سنجد بأنَّ الخوف من الفَناء والموت، هو أكثر الأمور التي تدفع الإنسان للامتلاك وعدم الاكتفاء بما يمتلك.
قد تكون هذه الفكرة غريبة على أذهاننا، لكنّ السّيّد المسيح وصفها بشكل رائع في إنجيل لوقا 12: 13 - 21
، عندما جاء إليه رَجُل يطلب منه، أن يقضي بينه وبين أخيه ويَقسم لهُما الميراث.
لا توجد تفاصيل كثيرة عن ظروف هذا الرَّجُل وأخيه، ربّما أخوه كان قد سرق منه ميراثه كلّه واستَولى عليه لنَفْسه ولم يُعطِه ما يستحقّ.
المهمّ في القصّة هو أنّ الرّبّ يسوع انتهز هذه الفرصة، ليعلِّم هذا الإنسان والجموع المحيطة به مبدأً هامّاً طالما يغيب عن ذهن الكثيرين، وهو المبدأ المذكور في لوقا 12: 15
بمعنى آخَر، حياة الإنسان لا تُقاس بكميّة ما يمتلك. لذلك هو لا يحتاج للبحث عن الأمان أو الشّعور بالقدرة على الاستمرار في الحياة ممّا يمتلكه، بل يمكنه فعل ذلك عبر علاقته بالله خالقه، فهو مصدر الأمان الوحيد.
وليوضِّح يسوع بشكل أكبر ما يريد قوله، أعطى مستمعيه مثلاً عن غني غبي فكّر في بناء مخازن جديدة يمكن أن تتّسِع لغِلال أكثر أثمرتْ بها أرضه.
وبالفعل بعد أن قام هذا الغني - الذي دعاه يسوع في المثل غبيّاً- ببناء كلّ تلك المخازن، قال لنَفْسه: لوقا 12: 19
، لكن! ما الذي حدث؟،
في تلك اللحظة طُلِبتْ نَفْسه منه، بمعنى جاءت لحظة مَنِيّته، وبالتّالي لم تنفعه أمواله ولم تزيد من عمره يوماً واحداً.
وختم يسوع كلامه بالقول في لوقا 12: 21
، بمعنى آخَر، هكذا سيحدث مع كلّ من يجمع أموالاً بهدف الحصول على الشّعور بالأمان والرّغبة في البقاء. إذ لن تفيده أمواله عندما تُطلَب منه نَفْسه ويموت، ولن تستطيع أن تزيد عمره الممنوح له من الله.
فما يفيد كلّ إنسان هو اللّجوء إلى المكان الوحيد الحقيقي للشّعور بالأمان والاكتفاء والرّاحة، أي أن يكون غنيّاً لله. بمعنى أن يكون غنيّاً في علاقته مع الله وفهمه لمبادئ ملكوته، وتطبيقه لتلك المبادئ التي بدورها ستمنحه الثّقة واليقين في كلّ ما يقوم به، وتعطيه القدرة على التَّرْك وعدم التّمسُّك بالأمور الفانية.
على هذا، ما هي مبادئ الملكوت المُضادّة للطَّمع وحُبّ الامتلاك؟
أعطى يسوع تلاميذه وصيّة جديدة، نجدها في يوحنّا 13: 34
إنْ بحثنا في العهد القديم وفي كتب الشّريعة، سنجد بأنَّ وصيّة المحبّة، ليست وصيّة جديدة، إذ قد طلب الله من شعبه أن يحبّوا بعضهم بعضاً.
لكن! لو تأمّلنا فيما قاله يسوع سنجد بُعداً جديداً أضافه يسوع إلى مستوى المحبّة، هو الوصيّة الجديدة.
يوحنّا 15: 12 - 13
في هذه الوصيّة، يضع يسوع نَفْسه المثال والمقياس لمحبّتنا لبعضنا البعض. فإن كان هو قد وضع نَفْسه لأجلنا على الصّليب، ولم يكن هو مركز اهتمام نَفْسه بل نحن من كنّا مركز حبّه واهتمامه، ولم يحسب ما يمكن أن يعود عليه بالنّفع من محبّته لنا بل أعطانا كلّ ما يملك من أجلنا.
وضَعَ نَفْسه لأجلنا. هذا هو البُعد الجديد، والمستوى الرّوحي الأقوى والأعمق للمحبّة التي أراد يسوع من كلّ إنسان يتبعه ويعيش في ملكوته أن يحيا فيه.
إنْ بحثنا في مصدر المشاكل والضّيقات التي يمرّ بها العالم، في محاولة لإيجاد حلّ لها، سنلاحظ بأنَّ معظم تلك المشاكل يرجع مصدرها إلى الطّمع وحُبّ الامتلاك وتفضيل نَفْسي وعائلتي وبلدي عن الآخَر.
وبالمقابل، إنْ بحثنا في الكتاب المقدّس وفي مبادئ الحياة المسيحيّة، فسنجد دائماً أنَّ التّركيز والهدف النّهائي للحياة من وجهة نظر الله، مبنيّ ليس على ما هو لِذَاتي، بل على علاقة محبّة وعطاء لله والآخَر.
إنْ استطاع كلّ إنسان العَيش بمبادئ السّيّد المسيح، فإنّه سيَحيا حياة مختلفة ملؤها الشّبَع.
لكن! إنْ كنتُ أتّبع المسيح لكنّي أحيا بمبادئ العالم، فسينتهي بي المطاف إلى الدّمار والألم. إذ لا يمكن لي أبداً أن أحيا مع المسيح بمبادئ العالم.
لذلك عليّ أن أطلب من الله دائماً مَنحي القدرة على تغيير أهداف حياتي ونقاط تَمركُزها، وأن أفعل ما قاله يسوع في لوقا 9: 23 - 24
ولا يعني قوله "أُهلِكُ نَفْسي"، أن أعذّبها وأُميتها وأقتلها. بل أنْ نُهلِك ذواتنا معناه، ألّا تكون هي فقط مركز حياتنا وألّا ندعها تستعبدنا، فنقضي حياتنا محاولين تسديد احتياجها الذي لا يمكن تسديده.
ليتنا نضع الله في مركز حياتنا ونترك أمر تسديد احتياجنا الذّاتي عليه، فهو القادر وحده على إشباع نفوسنا المُتعَبة والمُتطلِّبة.
إنْ أردتُ العَيش في راحة وفرح مع الله والنّاس، فلا بدّ لي من فعل ما سبق. أمّا إذا قرّرتُ أن أحيا بمبادئ العالم التي يحكمها الطّمع وحُبّ الامتلاك، فإنّي سأقضي أيّامي في ألم وتعاسة مع ذاتي و مع الآخَرين.
العطاء هو أحد المفاتيح للحياة المُتمركِزة حول الله والآخَر، وليس حَول النَّفْس.
العطاء أي السّخاء، هو أحد أكبر المفاتيح التي تساعدني أن أحيا حياةً مركزها الله والآخَر، وليس نَفْسي وطمعي وحُبّي للامتلاك.
عطائي عليه أن يكون نابعاً من عَوَزي، بمعنى آخَر، أن أكون مستعدّاً لمنح الغالي الذي لديّ، إنْ تطلَّب الأمر منّي ذلك.
الكثير من النّاس يعتقدون بأنَّ العطاء المادّي هو التّعبير الوحيد عن العطاء، وهو كلّ ما عليّ تقديمه. لكن هذه ليست الحقيقة، لأنّه يمكنني منح ذاتي بلا تحفُّظات لله وأن أكون مُتاحاً كلّ يوم كي أسمع صوت الله، وأُطيع ما يضعه في قلبي من نحو ما عليّ تقديمه للآخَرين.
فإنْ كنتُ بالفعل أحيا بمبادئ الملكوت، فسأُدرك بأنّي وما أمتلكه مُلكاً لله. وبأنّه الوحيد الذي من حقِّه التّصرُّف فيَّ وبما أملكه.
لذا كي أتخلّص من الرّغبة في الامتلاك ومشاعر الطّمع لديّ، عليّ أن أُعطي وأُعطي، أُعطي بسخاء وفرح لكلّ من أجده محتاجاً. لأنَّ المَنح والعَطاء سيجعلاني أَهدِم تمثال الإله الذي في حياتي، الذي هو ذاتي، وأُقدِّم عبادتي لله وحده الإله الوحيد والرّبّ الوحيد الذي يستحقّ الجلوس على عرش قلبي.
شاهد هذا الفيديو عن أهميّة ودور المال في حياتنا. أُدخل هنا
واستمع أيضاً إلى حلقة "البخل" من برنامج "إسمع وميِّز".