نُعاني في بلداننا العربيّة من قصور حاد في مفهومِنا عن السُّلطة، وكُلّما أُتابع الصُّحف اليوميّة أو
نشرات الأخبار أو أستمع إلى برامج "التّوك شو" يزيد اقتناعي بهذا الأمر. ولا تزال الغالبيّة العُظمى من شعوبنا العربيّة إن لم يكن الكُلّ، مقتنعون بأنّ المنصب يُعطي قوّة ومكانة مشروعتَين، لذلك ترى من هو في منصب يسعى بشتّى الوسائل ليحافظ عليه. ودائماً للكُرسي بريق في بلادنا، لذلك لا نسمع عن مسؤول استقال أو كانت لديه الجرأة ليعتذر بعد خطإٍ فادحٍ تسبَّب فيه. لا نسمع عن مسؤول قدَّم رؤية مُستقبليّة عن المسؤوليّة التي يتولّاها. ولا نسمع عن مسؤول قبل أن يستلم مسؤوليّته قدَّم بياناً بمُمتلكاته، وبالتّالي لا يُقدِّم هذا البيان عند إقالته أو تقاعده. لا نسمع عن مسؤول استغلَّ منصبه في خدمة غيره، وإن فعل ذلك يكون أيضاً لتحقيق مصلحة شخصيّة في أضيق الحدود.
هناك عدّة أسباب _ من وجهة نظري - خَلَقَت هذه الأزمة:
1. عُزوف الأغلبيّة من شعبنا العربي عن المشاركة في الحياة السّياسيّة بسبب الضّغوط الاقتصاديّة التي يُعاني منها. فالأغلبيّة السّاحقة من الأُسَر غير قادرة على توفير احتياجاتها الأساسيّة وبالتّالي انشغالهم الشّديد بتأمين بلُقمة العَيش يمنعهم عن الاهتمام بالسّياسة.
2. إنحصار الحركة السّياسيّة على فئة واحدة تستلم كلّ الدّوائر السّياسيّة.
3. التّأثير على الإعلام المقروء والمسموع والمرئي لحساب هذه الفئة.
4. تهميش دَور المُفكّرين البارزين والعمل على إسكات أصواتهم بكلّ الوسائل.
كلّ هذا خَلَق جيلاً بل أجيالاً تسعى وتحلم بالكُرسي، وأُخرى ليس لديها رغبة في عمل شيء إلّا ما يجعل صاحب الكُرسي يرضى عنها، وتسير بالسّياسة القائلة: "خلّيك في حالك وامشي جنب الحيط". فهل من مفهوم صحيح للسُّلطة والرِّئاسة في كلمة الله المقدّسة نستطيع أن نتعلّم منه؟
الرِّئاسة في الفكر الكتابي:
من بداية "سفر التّكوين" يُقدِّم الله نفسه للبشر على أنّه هو السّيِّد الخالق العظيم، الذي خلق كلّ شيء من العَدَم. وفي "سفر الخروج" أظهرَ أنّه السّيِّد الذي يسمع لصراخ شعبه ويُخلّصهم بآيات وعجائب. ثمّ يُغيّر الله فكر "موسى" من نحو القيادة بعد أن كان يقوم بكلّ الأعباء وحده، واكتشف أنّ لديه مئات بل آلاف القادة في الشّعب، ولم يكُن يراهم من قبل. ومنذ ذلك الوقت حقّق "موسى" إنجازات غير عاديّة، فبالإضافة إلى أنّ التّذمُّرات قد اختفت من الشّعب، استطاع نتيجة التّفويض الذي قام به لهؤلاء القادة أن يكتب أسفار موسى الخمسة. وعندما استلم "يشوع" القيادة بعد "موسى"، سار على نَهجه مُستعيناً ببعض القادة، واستطاع أن يُحقّق الحُلم بدخول أرض الموعد وتقسيم الأرض على الأسباط. بعد ذلك، دخل الشّعب منحدراً خطيراً أيّام القُضاة الذين كان أغلبهم من نوعيّة هؤلاء الولاة الذين لا يفكّرون إلّا في نفوسهم، ففعل كلّ واحد ما يَحسُن في عينيه. وتطوّرت فكرة القُضاة وتبلوَرت إلى أن اختار الشّعب أن يكون لهم ملوك أرضيّين (الأوتوقراطيّة)، بعد أن كان لهُم ملك سماويّ (الثيوقراطيّة)، وإن كانوا يحاولون أن يُضفوا صفة دينيّة عليه من خلال المِسحة من رجال الله عليه أمام الشّعب، فاختاروا "شاول". اختاروه لحُسنِ مظهره وطوله الفارع، غير أنّ "شاول" كان ذا شخصيّة مهزوزة ولم يكُن له فكر مستقيم أمام الله ففارقه روح الله. ثمّ جاء بعده "داود" أشهر ملوك بني إسرائيل والذي لم يُهزَم في أيّة معركة حربيّة، وقد بايَعَ الشّعب داود ونصَّبوه ملكاً عليهم لمدّة أربعين سنة. ولم يختلف "سليمان" عن أبيه "داود" كثيراً إلّا في مظاهر الثّراء، بعد أن أرسى له "داود" أبيه قواعد المملكة. فتفرّغ للبناء وتوسيع التّجارة فحدثت نهضة عمرانيّة عظيمة في عصره، وبُنِيَ الهيكل المنسوب إلى اسمه، هيكل سليمان، وازدادت ثرواته جدّاً. كانت بداية حياته رائعة عندما طلب من الله أن يملأه بالحكمة لكي يقود الشّعب، فاستجاب له الله، غير أنّه في نهاية حياته مالَ قلبه إلى نساء أجنبيّات. وانقسمت المملكة من بعده إلى مملكة شماليّة و مملكة جنوبيّة وكان أغلبهم أشراراً، فجاء عليهم السَّبِي كعقاب إلهي على شرورهم، فتمّ سَبيَهم إلى "بابل وأشور" أقوى الممالك في ذلك الوقت.
الرّئاسة والسُّلطة في تعاليم السّيّد المسيح:
يبحث المتسلِّطون ومُحبّو الكُرسي عن العَظَمة، لدرجة تُصيبهم بجنون العَظَمة. لكن الرّب يسوع قَلَبَ كلّ المفاهيم البشريّة في مقاييس العَظَمة. فكُنّا ولا زِلنا حتّى عصرنا هذا نفهم أنّ السُّلطة والعَظَمة هما في مظاهر الغِنى أو المنصب، لكن السّيّد المسيح أثبت عكس ذلك: فجاء فقيراً، وانتمى لأُسرة فقيرة جدّاً، ووُلِدَ في مكان لا يرتضي إنسان أن يَلِدَ أطفاله فيه، ولم يكُن له أيّ منصب أرضي، ولم يكُن له أيّة ممتلكات أرضيّة. فعَمِل هزّة عنيفة للفكر البشري وأثبتَ أنّ العَظَمة الحقيقيّة تنبع من الدّاخل و ليس الخارج، العَظَمة الحقيقيّة ليست في المناصب أو الممتلكات، العَظَمة الحقيقيّة ليست في التّسلُّط. العَظَمة الحقيقيّة تكون في تقديم الخدمة لمن حولنا، العَظَمة الحقيقيّة هي أن أُعطي دون انتظار مُقابِل، العَظَمة الحقيقيّة ليست في الكبرياء ولكن في التّواضع، العَظَمة الحقيقيّة في أن أُضحّي من أجل الآخَرين لا أن أستغلَّهم لتحقيق مطامعي!!، العَظَمة الحقيقيّة في أن أُفكِّر في طُرُق جديدة لأساعد غيري، العَظَمة الحقيقيّة ليست في عدد الذين يتبعونني ولكن في عدد الذين أخدمهم.
الحقيقة أنّ السّيّد المسيح لم يكتفِ فقط بالقَول كما يفعل الكثيرون الآن، ولكنّه عاش ما قاله قبل أن يقوله، فعندما قال: من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً، ومن أراد أن يكون فيكم أوّلاً فليكن آخر الكُلّ، كان قد عاش حياته يُجَسِّد هذه المعاني النّبيلة والرّائعة قبل أن يعلِّمها. لقد رفض السُّلطة عندما عَرَضوها عليه في دخوله إلى أورشليم قبل الصَّلب، وعندما هتفوا له لم ينجرف وراء هتافاتهم المُزيَّفة. وحينما صنع العشاء الأخير لتلاميذه قام وغسل أرجُلَهم كما يخبرنا {إنجيل يوحنّا 13: 3 - 15|3يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَرَجَ، وَإِلَى اللهِ يَمْضِي، 4قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا، 5ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَل، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التَّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِرًا بِهَا. 6فَجَاءَ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ. فَقَالَ لَهُ ذَاكَ:«يَا سَيِّدُ، أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!» 7أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ، وَلكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ». 8قَالَ لَهُ بُطْرُسُ:«لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَدًا!» أَجَابَهُ يَسُوعُ:«إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ». 9قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ:«يَا سَيِّدُ، لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضًا يَدَيَّ وَرَأْسِي». 10قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ، بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». 11لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ، لِذلِكَ قَالَ: «لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ».12فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضًا، قَالَ لَهُمْ:«أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ 13أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّمًا وَسَيِّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذلِكَ. 14فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، 15لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا.}.
فالسُّلطة في فكر المسيح هي:
• التّواضع الحقيقي الذي يصدُر من إنسان يعرف قَدْر نفسه ويعرف مدى احتياجه للآخرين بقدر ما يحتاج الآخرين إليه.
• اعتبارها فرصة لخدمة الله والنّاس، والتّفكير في مصالح الآخرين مثلما أُفكّر في مصالحي الشّخصيّة.
• السُّلطة ممنوحة من الأغلبيّة من كلّ الشّعب وليست فرضاً بالقوّة على أحد.
• اعتبار السُّلطة كتشريف وتكليف من قِبَل الله والنّاس الذين اختارونا بمحض إرادتهم. فهي امتياز كبير ولكنّها أيضاً مسؤوليّة خطيرة يجب أن نطلب العَون من الله ومن الفريق الذي يعمل معنا كي نكون معاً على قدر المسؤوليّة.
• يجب أن أقبل أن أُضحّي من أجل الآخرين كي أكون مثالاً وقُدوة لهم. قال السّيّد المسيح في {إنجيل يوحنّا 12: 24|24اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ.}.
• يجب أن أثق في من حولي وأقوم بتفويض بعض الأعمال التي أرى أنّ غيري أجدر منّي بالقيام بها.
هذا هو فكر السّيّد المسيح عن السُّلطة وعن الرّئاسة. فهل نفهم ونَعي الدّرس ونُطبّق هذا الفكر في بيوتنا وكنائسنا ومجتمعاتنا؟!!!!.
++++
مواضيع مشابهة: